فصل: تفسير الآيات (38- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (37):

{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها، وذلك قبل بناء البيت، وهذا كان بعد بنائه، تأكيدًا ورغبة إلى الله، عز وجل؛ ولهذا قال: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}
وقوله: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} قال ابن جرير: هو متعلق بقوله: {المحرم} أي: إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده.
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: لو قال: أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: {مِنَ النَّاسِ} فاختص به المسلمون.
وقوله: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} أي: ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك وكما أنه {وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} فاجعل لهم ثمارا يأكلونها. وقد استجاب الله ذلك، كما قال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57] وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته: أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها، استجابة لخليله إبراهيم، عليه الصلاة والسلام.

.تفسير الآيات (38- 41):

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}
قال ابن جرير: يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم خليله أنه قال: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} أي: أنت تعلم قصدي في دعائي وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، ولا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم حمد ربه، عز وجل، على ما رزقه من الولد بعد الكبر، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} أي: إنه ليستجيب لمن دعاه، وقد استجاب لي فيما سألته من الولد.
ثم قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} أي: محافظا عليها مقيما لحدودها {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي: واجعلهم كذلك مقيمين الصلاة {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} أي: فيما سألتك فيه كله.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} وقرأ بعضهم: {ولوالدي}، على الإفراد وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبين له عداوته لله، عز وجل، {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي: كلهم {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} أي: يوم تحاسب عبادك فتجزيهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والله أعلم.

.تفسير الآيات (42- 46):

{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}
يقول تعالى شأنه {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ} يا محمد {غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} أي: لا تحسبه إذ أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم، لا يعاقبهم على صنعهم بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عدا، أي: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ} أي: من شدة الأهوال يوم القيامة.
ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم ومجيئهم إلى قيام المحشر فقال: {مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين، كما قال تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} إلى قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 198- 111]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43].
وقوله: {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} قال ابن عباس، ومجاهد وغير واحد: رافعي رءوسهم.
{لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي: بل أبصارهم طائرة شاخصة، يديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم، عياذًا بالله العظيم من ذلك؛ ولهذا قال: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} أي: وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الفزع والوجل والخوف. ولهذا قال قتادة وجماعة: إن أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها من شدة الخوف.
وقال بعضهم: {هَوَاءٌ} خراب لا تعي شيئا.
ولشدة ما أخبر الله تعالى به عنهم، قال لرسوله: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ}.
يقول تعالى مخبرًا عن قيل الذين ظلموا أنفسهم، عند معاينة العذاب: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 9، 10]، وقال تعالى مخبرا عنهم في حال محشرهم: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27، 28]، وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].
وقال تعالى رادا عليهم في قولهم هذا: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} أي: أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحال: أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء، فذوقوا هذا بذاك.
قال مجاهد وغيره: {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} أي: ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، كما أخبر عنهم تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [النحل: 38].
{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ} أي: قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم، ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر، ولم يكن فيما أوقعنا بهم مزدجر لكم {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5].
وقد روى شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن دابيل أن عليا، رضي الله عنه، قال في هذه الآية: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} قال: أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين، فرباهما حتى استغلظا واستعلجا وشبا.
قال: فأوثق رِجْل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت، وجوعهما، وقعد هو ورجل آخر في التابوت قال:- ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم- قال: فطارا قال وجعل يقول لصاحبه: انظر، ما ترى؟ قال: أرى كذا وكذا، حتى قال: أرى الدنيا كلها كأنها ذباب. قال: فقال: صوب العصا، فصوبها، فهبطا. قال: فهو قول الله، عز وجل: {وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال}. قال أبو إسحاق: وكذلك هي في قراءة عبد الله: {وإن كاد مكرهم}.
قلت: وكذا رُوي عن أبي بن كعب، وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، أنهما قرآ: {وإن كاد}، كما قرأ علي.
وكذا رواه سفيان الثوري، وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أذنان عن علي، فذكر نحوه.
وكذا رُوي عن عكرمة أن سياق هذه القصة لنمرود ملك كنعان: أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر، كما رام ذلك بعده فرعون ملك القبط في بناء الصرح، فعجزا وضعفا. وهما أقل وأحقر، وأصغر وأدحر.
وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر، وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها، نودي أيها الطاغية: أين تريد؟ فَفَرق، ثم سمع الصوت فوقه فصوب الرماح، فصَوبت النسور، ففزعت الجبال من هدتها، وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك، فذلك قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}
ونقل ابن جُريج عن مجاهد أنه قرأها: {لَتَزُولُ منه الجبال}، بفتح اللام الأولى، وضم الثانية.
وروى العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} يقول: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
وكذا قال الحسن البصري، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من كفرهم بالله وشركهم به، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها، وإنما عاد وبال ذلك على أنفسهم.
قلت: ويشبه هذا إذا قوله تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا} [الإسراء: 37].
والقول الثاني في تفسيرها: ما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} يقول شركهم، كقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 90- 91]، وهكذا قال الضحاك وقتادة.

.تفسير الآيات (47- 48):

{فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)}
يقول تعالى مقررًا لوعده ومؤكدًا: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أي: من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
ثم أخبر أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا يغالب، وذو انتقام ممن كفر به وجحده {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور: 11]؛ ولهذا قال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} أي: وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة، كما جاء في الصحيحين، من حديث أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس فيها معلم لأحد».
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة أنها قالت: أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} قالت: قلت: أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: «على الصراط».
رواه مسلم منفردًا به دون البخاري، والترمذي، وابن ماجه، من حديث داود بن أبي هند، به وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه أحمد أيضا، عن عفان، عن وهيب عن داود، عن الشعبي، عنها ولم يذكر مسروقًا.
وقال قتادة، عن حسان بن بلال المزني، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} قال: قالت يا رسول الله، فأين الناس يومئذ؟ قال: «لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي، ذاك أن الناس على جسر جهنم».
وروى الإمام أحمد، من حديث حبيب بن أبي عمرة، عن مجاهد، عن ابن عباس، حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قوله تعالى: {وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: «هم على متن جهنم».
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن، حدثنا علي بن الجعد، أخبرني القاسم، سمعت الحسن قال: قالت عائشة: يا رسول الله، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ} فأين الناس يومئذ؟ قال: «إن هذا شيء ما سألني عنه أحد»، قال: «على الصراط يا عائشة».
ورواه أحمد، عن عفان عن القاسم بن الفضل، عن الحسن، به.
وقال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثني الحسن بن علي الحلواني، حدثنا أبو تَوْبة الربيع بن نافع، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد- يعني: أخاه- أنه سمع أبا سلام، حدثني أبو أسماء الرَّحَبِي؛ أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه قال: كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه حَبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يُصرَع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟! فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سَمّاه به أهله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي». فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أينفعك شيء إن حدثتك؟» فقال: أسمع بأذني. فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه، فقال: «سل». فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم في الظلمة دون الجسر» قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقال: «فقراء المهاجرين». قال اليهودي: فما تُحْفَتهُم حين يدخلون الجنة؟ قال: «زيادة كبد النون» قال: فما غذاؤهم في أثرها؟ قال: «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها». قال: فما شرابهم عليه؟ قال: «من عين فيها تسمى سلسبيلا». قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان؟ قال: «أينفعك إن حدثتك؟» قال: أسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد. قال: «ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فَعَلا منيُّ الرجل منيَّ المرأة أذكرا بإذن الله- تعالى- وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنَّثا بإذن الله» قال اليهودي: لقد صدقت، وإنك لنبي. ثم انصرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه، حتى أتاني الله به».
وقال أبو جعفر بن جرير الطبري: حدثني ابن عوف، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا سعيد بن ثوبان الكَلاعي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَبْر من اليهود فقال: أرأيت إذ يقول الله في كتابه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فأين الخَلْق عند ذلك؟ فقال: «أضياف الله، فلن يعجزهم ما لديه».
ورواه ابن أبي حاتم، من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، به.
وقال شعبة: أخبرنا أبو إسحاق، سمعت عمرو بن ميمون- وربما قال: قال عبد الله، وربما لم يقل- فقلت له: عن عبد الله؟ فقال: سمعت عمرو بن ميمون يقول: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ} قال: أرض كالفضة البيضاء نقية، لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها خطيئة، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، حفاةً عراة كما خلقوا. قال: أراه قال: قياما حتى يُلجِمَهم العرق.
وروي من وجه آخر عن شعبة عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود، بنحوه.
وكذا رواه عاصم، عن زرّ، عن ابن مسعود، به.
وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، لم يخبر به. أورد ذلك كله ابن جرير.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الله بن عُبَيد بن عَقِيل، حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب، حدثنا جرير بن أيوب، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله، عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ} قال: «أرض بيضاء لم يسقط عليها دم ولم يعمل عليها خطيئة». ثم قال: لا نعلم رفعه إلا جرير بن أيوب، وليس بالقوي.
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثا معاوية بن هشام، عن سنان عن جابر الجُعْفي، عن أبي جُبَيرة عن زيد قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فقال: «هل تدرون لم أرسلت إليهم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ} إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة». فلما جاءوا سألهم فقالوا: تكون بيضاء مثل النَّقِي.
وهكذا رَوى عن علي، وابن عباس، وأنس بن مالك، ومجاهد بن جبير: أنها تبدل يوم القيامة بأرض من فضة.
وعن علي، رضي الله عنه، أنه قال: تصير الأرض فضة، والسموات ذهبا.
وقال الربيع: عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: تصير السموات جنانا.
وقال أبو مِعْشر، عن محمد بن كعب القرظي، أو عن محمد بن قيس في قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ} قال: تبدل خبزة يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم.
وكذا رَوَى وَكِيع، عن عمر بن بشير الهمداني، عن سعيد بن جبير في قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ} قال: تبدل خبزة بيضاء، يأكل المؤمن من تحت قدميه.
وقال الأعمش، عن خَيْثَمة قال: قال عبد الله- هو ابن مسعود-: الأرض كلها يوم القيامة نار، والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها، ويُلجِمُ الناس العرقُ، أو يبلغ منهم العرق، ولم يبلغوا الحساب.
وقال الأعمش أيضًا، عن المِنْهَال بن عمرو، عن قيس بن السكن قال: قال عبد الله: الأرض كلها نار يوم القيامة، والجنة من ورائها، ترى أكوابها وكواعبها، والذي نفس عبد الله بيده، إن الرجل ليفيض عرقا حتى ترسخ في الأرض قدمه، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسه الحساب. قالوا مم ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: مما يرى الناس يلقون.
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن كعب في قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} قال: تصير السموات جنانا، ويصير مكان البحر نارًا، وتبدل الأرض غيرها.
وفي الحديث الذي رواه أبو داود: «لا يركب البحر إلا غاز أو حاج أو معتمر، فإن تحت البحر نارا- أو: تحت النار بحرا».
وفي حديث الصور المشهور المروي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تبدل الأرض غير الأرض والسموات، فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ثم يزجر الله الخلق زجرة، فإذا هم في هذه المبدلة».
وقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ} أي: خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أي: الذي قهر كل شيء وغلبه، ودانت له الرقاب، وخضعت له الألباب.